الأحد، 6 أكتوبر 2013

1
هي رواية حاولت اختصار احداثها على عشرة اجزاء
اتمنى ان تنال استحسانكم
اليمامة 2012

 
 
 
 
1- لم يكن سوى أبي
لقد كان يوماً جميلاً قضيناه وزملاء الدراسة , هل تتذكرينه عندماكنا في سنة أولى جامعة ,حينما نظمت الكلية رحلة للتعارف فيما بيننا , استمتعنا خلالها فقد كان التنسيق رائعاً , حيت احتوت على العديد من الفعاليات والمسابقات والألعاب وبرامج التسلية , إلا أن هناك شيئاً واحداً قد نغص فرحتي , هل تعرفين ما هو ؟ أكيد لا تعرفين فانا كعادتي لم ابدي أي تلميح يدل عن عدم راحتي , إن ما أتعبني يا صديقتي هو سؤالك المطروح عندما كنا نلعب لعبة الصراحة ,سألتيني وقتها لما أنتِ غامضة ؟ ,حينها أجبتك وأنا اضحك بأنني لست غامضة , والتزمت الصمت ومع هذا قدرتك كثيراً لأنك احترمتي صمتي ولم تلحي في الجواب , ولو نظرتي وتمعنتي في عيني لرأيتهما يتطلعان إلى ذاك الأفق البعيد الذي لطالما ما أخذني الحنين إليه ,فأنا يا صديقتي احن إلى ذلك المكان و إلى شئ ما يربطني به , شئ لا استطيع أن أتلمسه ولكني أحسه واحتاجه ودت حينها لو ينفذ بصري لأرى ذاك المكان الذي اقتلعت منه .
اجل يا صديقتي لقد اقتلعت من ذلك المكان كما تقلع النبتة من الأرض , أرى تساؤل وحيرة في عينيك !!! لا تستغربي سوف احكي لك, أنا يا صديقتي دوماً ما يأخذني الحنين إلى حيث المروج الخضراء , والمدرجات وأشجار البن , والذرة وأعشاش العصافير ودميتي القطنية التي تركتها على نافذة منزل جدي في القرية , هذا المكان الذي أنا فيه والناس الذين أعيش معهم لا تربطني بهم أي صلة, عندما كنت في الخامسة من عمري وقد بدأت اعيي ما حولي , ادرس القرآن الكريم عند فقي القرية , رأيت أولاد القرية يهللون فرحين بقدوم القادم الجديد من المدينة ويجرون إلى بيته للحصول على الحلوى لحقت بهم وكانوا يهتفون ( الغالبي جاء ...هى ...هى ..الغالبي جاء) وأنا اهتف معهم , كنا نتدافع ونتزاحم للحصول على ما يجود به أهل القادم الجديد , فوجئت بأنه قد طُلب من الجميع الرحيل _بعد إعطائهم الحلوى _ دوني , رأيته بعدها في ديوان المنزل يناديني وقفت عند ركن باب الديوان دون حراك وعيناي مسمرتان على الأرض استرق النظر إليه حينا وحينا آخر اومي بنظراتي للأرض لم أجرؤ على الدخول وهو يبتسم لي ويدعوني و أنا واقفة مكاني دون حراك , لمحته فقد كان وسيماً جداً ,تشع من عينية الواسعتين اشراقة جميلة , بشرته بيضاء صافية لم تلفحها أشعة الشمس الحارقة كباقي رجال القرية ,لقد كان نظيفاً رائحته عطرة تملا المكان , فوجئت بعدها أن هذا القادم الجديد لم يكن سوى أبي .

2ما هي إلا موفى كبير
 
مؤكد انه قد أصابك الذهول وتسألتي هل من المعقول أن لا اعرف أبي , وكيف لي أن اعرفه وأنا لم أراه من قبل ,فأبي لم يكن من ساكني القرية وإنما الحضر ولد في المدينة , فجدي لأبي هو من ترك القرية واستقر في المدينة , ولكن كان له أملاك وأراضي في القرية بقيت هي صلة الوصل , فزواج أبي من القرية هدفه المحافظة على تلك الأملاك , وكانت أمي هي الزوجة الأولى ,بعد ذلك تبعها بزوجة ثانية من القرية أيضا وطلق أمي بعد ولادتي مباشرتاً , كان يأتي إلى القرية بين كل حين وحين يمتد غيابه إلى أربع أو خمس سنوات يأتي مرة خلالها , لذا كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها أبي .
بعد يومين من رجوعه رأيته عندنا في بيت جدي , كان يريد أن يعيد أمي إلى ذمته رايته يراضيها وهي تتمنع وأصرت إذا ما رجعت تبقى في بيت أبويها لرعايتهم ,
كنت اقضي وقتي في القرية ما بين ألفقي واللعب في القرية , وكانت أيام الحصاد هي أجمل أيام السنة ليس فقط لأنها أيام الخير وجني المحاصيل والحركة والنشاط وهمة العمل التي كانت تبدو جلية على سكان القرية وفرحتهم بحصاد ما زرعوه وإنما لأنها تصاحب قدوم إخوتي الأكبر مني سناً من المدينة ( مريم و مروان) حيث أخذهم والدي للدراسة فقد كانت القرية حينذاك محرومة من أي وسائل للدراسة سوى تعليم القرآن ,
كانت أجمل الأيام التي اقضيها هي أثناء وجود إخوتي نلعب سويا , واستمع بلهفة إلى أختي وهي تحدثني عن المدينة وجمالها وعن خالتي زوجة أبي ( الزوجة الثالثة ) التي تزوجها أبي في المدينة وطيبتها , حيث كان حينها يطير عقلي و ازداد شوقاً لرؤيتهما .
في احد الأيام رجعت للبيت استقبلتني جدتي بغرابة وسألتني ,أنتي لازلتِ موجودة في القرية لم تسافري مع أبوك أمك تبكي عليك ظنت انك سافرتي , أجبتها لا لم أسافر ,وأبي لازال موجود في بيته .
في اليوم الثاني نزل أبي من الصباح الباكر ,وحملني ثم وضعني على ظهر الحمار وربطني عليه كي لا اسقط , وأنا الفرحة لا تسعني و أختي من أبي تبكي وتصرخ تريد الذهاب معي وأمها تمنعها وتجرها غصب عنها ,وأنا على ظهر الحمار أماحكها انظر إليها واضحك واخرج لها لساني خلسة دون أن يراني احد , قد تستغربين وتسألين لماذا الحمار , إن قريتنا يا صديقتي جبلية ووعرة و الحمير هي وسيلة النقل الأساسية إلى يومنا هذا, فالجبال المحيطة بنا ومياة الأمطار والسيول وما تجرفه من أحجار عرقلت أي إصلاحات في القرية , هذا إلى جانب عدم الاهتمام من الجهات المختصة .
بعد مرور أكثر من ساعتين وصلنا إلى المركز ومن هناك نقلتنا سيارة , ولأول مرة يا صديقتي اعرف السيارة وامتطيها بدلاً عن الحمار , ولكني أتذكر جيداً ما أصابني وقتها من الغثيان والقي حتى أني كرهت بعدها السيارة , وصلنا بعدها إلى مدينة صغيرة قضينا ليلتنا في احد فنادقها , اليوم الثاني تحركنا إلى المدينة المطلوبة .
منذ الوهلة الأولى التي وطأت رجلي فيها هذه المدينة شعرت بلفحة حر لم أعهدها من قبل ذكرتني بموقد الحطب ( الموفى ) في بيت جدي , فقد صادف قدومي موسم الرياح والحر الشديدين.
بعدها حينما كان يسألني احدهم كيف وجدتي المدينة , افتح يدي واسعاً وأجيبهم ماهي إلا موفى كبير,فكانوا يضحكون والبعض كان لا يفهم عما أتكلم .
 
 
امسك بي أبي جيداً ومشينا ما يقارب نصف ساعة إلى أن وصلنا إلى منزل صغير تحيط به المنازل يمنه وشماله ,وخلفه , فُتح الباب على وجه امرأة عجوز تصرخ دون تمييز وتصيح بكلام لم افهمه وقتها .. بعدها عرفت من هذه المرأة ؟ أنها أم خالتي زوجة أبي كانت دائمة التذمر والصراخ هو طبعها في كل وقت , كانت وقتها تعبر عن انزعاجها من قدومي , و تتأسف على ابنتها التي جعل منها أبي مربية لأطفاله وفي كل مرة يضيف لها فرد جديد, إلا أني لمست الفرحة في عيون اخوي ( مريم ومروان ) , أما خالتي فقد كان استقبالها لي فاتراً .
أكيد انك انبهرتِ من استقبال خالتي , أنا أيضاً لم أتوقع هذا لكني كنت مبهورة بجمال خالتي وأناقتها فقد كانت تلبس تنورة قصيرة تكشف عن ساقيها الجميلتين وبلوزة من الحرير وشعرها ينسدل على كتفها بتموجات متناسقة كانت مختلفة تماماً عن نساء القرية , لا أتذكر إطلاقا بأنني قد رايتا أمي دون منديل يغطي رأسها كما أنني لم أراها أبدا دون سروال طويل تلبسه تحت ثيابها,نظرت إليها بكل إعجاب وقلت في نفسي الله كم هو أبي ذواقاً فقد كان الجميع يتفق أن ما يميز أبي إلى جانب وسامته وغنائه أن يجتمع فيه الذكاء والدهاء معاً ,وهذا لمسته في انتقائه لزوجاته فقد كن جميعاً جميلات إلا أن كل واحدة منهن تميزها خصلة معينة , أمي تميزت بالحكمة وهناك موقف لها يتذكره الجميع يدل على تعقلها وحكمتها , فحينما قرر أبي أن يتزوج الثانية كانت أمي تحضر له احتياجات الخطبة من حلوى وغيرها وتربطها على الحمير ودموعها تتساقط ولم تنبس ببنت شفة وتقبلت الأمر بعقلانية , أما خالتي الثانية فقد كان يميزها المكر والدلال معاً , وزوجة أبي الثالثة تميزت بالتحضر والمدنية وأنها بلغت حداً معيناً من التعليم والثقافة .
بعد مكوثي فترة من الوقت طلبت مني خالتي أن اغتسل , فصحت مستغربة هل اليوم هو الجمعة , همست أختي في أذني أن اليوم ليس جمعة ,في المدينة لا بد أن نغتسل يومياً , لشدة الحرارة كما وان المدينة لا تعاني من نقص في المياة فهي متوفرة في الحنفيات , هميت بان اطلب من أختي أن تقوم بغسلي كما كانت تفعل أمي فانا لم اعتاد الاغتسال وحدي , إلا أنني خجلت وكنت أريد أن اثبت للجميع أنني كبيرة , دخلت الحمام وبقيت فيه فترة طويلة , مما حدى بخالتي أن تقلق وتطلب مني فتح باب الحمام وحينما رأتني لم أقوم بشئ سوى خلع ملابسي ورش قليل من الماء ,باشرتني بالصراخ وقامت بغسلي وضربي معاً وأنا ابكي بصمت من الضرب تارة ومن الصابون تارة أخرى .
خرجت من الحمام وعينيا محمرتان من البكاء , إلا أنني لم اخبر احد بما حصل لي .
أخذني إخوتي بعدها وطافوا بي فرحين حيث ذهبنا إلى بيت جدي وقد كان يبعد حوالي نصف ساعة , ولا زلت أتذكر هذا اليوم جيداً , فقد كان في بيت جدي العديد من الأولاد من أبناء عمومي وجميعهم فرح بي ورحبوا بي , وطبخت لنا خالتي أخت أمي التي كانت متزوجة من عمي طبخة لذيذة من طبخات القرية تزاحمنا عليها جميعنا , ونزلنا الشارع كانت الأنوار تملاه والمحلات وبائعي العربات والفوانيس ألمعلقه عليها , منظر جميل شدني كثيراً وبهرني فقد كنت اظنها نجوماً قد تساقطت من السماء .
اشترت لي أختي فاكهة وأعطتني إياها قضمت منها قليل ولم استلذ بطعمها , استغربت قائلة : أيتها البلهاء هذا تفاح لما لم تأكليه ,وكانت هذه هي المرة الأولى التي أذوق فيها التفاح , إلا أن التفاح لم يعجبني بالرغم من لونه الاحمر وشكله الشهي .
ونحن في طريق عودتنا للبيت كنا نضحك ونتكلم ونتمازح بالأيدي , إلا أنني لاحظت عند دخولنا المنزل خيم على اخوي السكينة والهدوء وجلس كل واحد في مكانه دون حراك وكأن على رؤوسهم الطير .
كنت أقلد أخوتي كيفما يتصرفون , اكتشفت بعدها بأن أخوتي يخافون كثيراً من خالتي ويعملون لها ألف حساب في حركتهم وكلامهم وكل شئ , فقد اُنتزعت منهم عفوية الأطفال وشقاوتهم واجبروا على النضوج قبل الأوان .
                                        3-المدينة
 
 
                                              4-هل أنا نحس ؟؟
مر شهر على مجيئي إلى المدينة , كانت حياتنا هادئة أبي يذهب كل صباح للإشراف على تجارة جدي مع بقية إخوته ويرجع في آخر اليوم,وإخواني يذهبون للدراسة وأنا أظل في البيت ساكنه إلا من بعض الحركات ألمسترقة احياناً عندما تأتي ابنة جارنا أسماء التي تصغرني بحوالي سنه فقد كنا نلعب معاً وأحيان نخرج قليلاً نلعب في الشارع , أما جدتي (أم خالتي ) كعادتها لم تتوقف عن الصراخ و التذمر منذ أن تستيقظ في الصباح الباكر وهي تصرخ بكلام وتعيد ذكريات الماضي والحاضر والمستقبل وكل كلامها ليس له إلا معنى واحد هو أنها ليست راضية عن زواجة ابنتها بأبي , وكذا عن وجودنا معهم, ولحسن الحظ إنها كانت تنام باكراً بعد صلاة العشاء .
بعدها تم تسجيلي في المدرسة , دخلت على الفصل الثاني من سنة أولى ابتدائي , إلا أن تعليمي للقرآن على يد فقي القرية ساعدني كثير في تحصيلي التعليمي المنتظم للحاق بزميلاتي في الفصل , كما كانت أختي مريم وخالتي يقومون بتعليمي بقية المواد (الرياضيات , العلوم ...الخ ) , وأحيان كثيرة كنت أنضرب بالعصا وبالذات عند تعليمي الرياضيات , من ضمن الطرائف التي كانوا يعلقون بها عليا و بالأخص جدتي العصبية الثرثارة , حينما سألتني أختي عن رقم خمسة كيف يكتب , أجبتها وأنا أحرك أصبعي السبابة بشكل دائري قائلة هكذا (دوران دائر ) , فكانت دائماً ما تستهزئ مني حتى إلى أن كبرت وتعايرني بها .
اجل يا صديقتي فقد كانت هذه العجوز كالعاصفة لا تهدأ من الصراخ والمعايرة والهمز واللمز وكلها تنصب على رؤوسنا , والأغلب حينما يكون أبي غائباً في عمله .
وفي المدرسة ايضاً حدثت لي بعض الطرائف ,عندما حانت حصة الرسم وأنا لم اعرف شيئاً عن مادة الرسم وما يعني رسم , طلبت منا المدرسة أن نرسم منظر طبيعي ,ولم ادري ماذا افعل وما هو المنظر الطبيعي وكنت خائفة من المدرسة أن تراني لا ارسم , نظرت إلى كراسة زميلتي أرى ما الذي تفعله وعملت مثلها وجدتها رسمت جبال وبركة كبيرة ماء ومركب _عرفت فيما بعد أن بركة الماء هذه هو ما يسمى البحر _ انتبهت لي وغطت كراستها وقالت بحنق غشاشة , لم ادري ما معنى غشاشة وقتها , أيضاً من الأشياء التي لازالت عالقة في مخيلتي لم انسها , كنا نفرح كثيراً حينما تطلب منا احد المدرسات شيئاً , في احد المرات طلبت مني إحداهن أن أعطي كراسة التحضير للمدرسة التي في الصف المجاور لصفنا , ذهبت اجري فرحة ودخلت الصف دون استئذان ,ولحسن الحظ أن المدرسة كانت مشغولة ما انتبهت لي , أشارت إلي إحدى الطالبات ونبهتني بأن أدق الباب قبل , لازلت اذكر جميل تلك الفتاة الطيبة إلى يومنا هذا وكنت أتمنى لو أصبحت صديقتي .
بعد ذلك تعثرت أحوال أبي المادية نظراً لإفلاس تجارة جدي لأسباب لا اعرفها حيث اضطر إلى الاغتراب في احد الدول المجاورة , وتركنا لوحدنا عند خالتي .
جاءت العطلة الصيفية ولم نسافر للقرية , فليس هناك من يشعر بألمنا وحاجتنا إلى السفر, أبي في غربته والآخرين لا يشعرون بما نعانيه .
شعرت حينها يا عزيزتي بأنني شؤم فبولادتي طلق أبي أمي , وبمجيئي للمدينة تعثرت أحوال أبي المادية وهجر وطنه الأصلي , وكذا حُرم إخوتي من السفر في العطلة الصيفية, ومما زاد من هذا الشعور هو أن تلك العجوز لا تتوانى عن إشعاري كل يوم بأنني نحس .
 
 
 
                                                     5-الغربة
 
كثيراً ما تتردد هذه الكلمة في مجتمعنا ولكن قليل من هم يستشعرون بها , هل تعني لك هذه الكلمة شئ؟
لم اشعر بالغربة وقسوتها كثيراً إلا حينما غادرنا أبي , ربما أنتِ تتسألين من في الغربة هو أم انتم , أقول لك يا صديقتي نحن من كان في غربة فرضت علينا فرضاً ونحن في سن أحوج ما نكون فيه إلى الاستقرار والسكينة , إن غربتي يا صديقتي ليست غربة مكان وناس فقط وإنما شعور داخلي تجسد في احتياجي لشئ ما افتقده , ربما حضن أمي أو الطبيعة التي نشأت فيها شئ لم استطع أن أتلمسه ولكني كنت أعاني منه,لقد عشنا يا صديقتي غربة وصلت أقصى مداها إلى أعماق النفس.
مرت سنة على فراق أبي , جاء لزيارتنا ومكث معنا شهر وبعدها رجع مرة أخرى للغربة .
كان يتواصل مع خالتي عبر الرسائل ,في البدء كانت تخبرنا بأنها استلمت رسالة منه وانه يسلم علينا وكنت افرح كثير عند سماعي مثل هذه الأخبار,ثم بعد ذلك لم تكن تخبرنا شئ , ولم نكن نجرؤ حتى على السؤال ,كنت استرق خلسة عند خروجها وأفتش بين أشيائها لأرى رسائل أبي وعندما أجدها اقرأها ,حينها اشعر بلذة وسعادة تغمراني , فقد ُكنت متعلقة بأبي كثير أكثر من والدتي ,ربما لأنني عرفته في الوقت الذي بدأت فيه أعي ما حولي , أو لأنه كان يحبني ويميزني في التعامل عن بقية أخوتي ,حتى عندما كان يغضب ويضرب إخوتي بالخيزران كان حنوناً عليا يضربني ضربات خفيفة بالمشط , ويعود بعدها لمراضاتي .
انقطعت أخبار والدي عنا ما يقارب خمسة أعوام , خرجت خلالها خالتي للعمل , وكانت أختي أيضا تدرس الأطفال في البيت مقابل مبلغ مالي , أما أخي فكان يعمل في احد المحلات .
عانينا الحرمان بكافة أنواعه منذ أن غادرنا والدي ولكن هذا لم يزيدنا إلا عزماً وصموداً لتحقيق رغبة أسمى هي سبب وجودنا في هذا المكان .
كنت في كثير من الأحيان حينما اجلس مع أختي ونتحدث عن حالنا ألومها عن وصفها الرائع والساحر للمدينة ,وطيبة خالتي وحسن عشرتها , تجيبني بأنها اضطرت أن تقول هذا حتى لا تحزن أمي وتزيد من همها وقلقها علينا , لله درك يا أختاه ما هذا العقل الذي انعم الله به عليك , أمعقول!!!! أن فتاة لم يتجاوز عمرها احد عشر عام تفكر بهذا العمق .
عاود أبي التواصل مع خالتي فقد كانت له ظروف خاصة تمنعه وعاد يرسل المصروف الشهري , إلا أن الحرمان أبى أن يفارقنا فقد أصبح رفيقنا الحميم , وان حدثتك يا صديقتي عن الحرمان لن يكفي هذا كتباً بأكملها , سوف أقص عليك إحدى قصص الحرمان المسلية , إحدى زميلاتي في المدرسة _كنت وقتها في مرحلة البلوغ _ دعتني لحفلة عيد ميلادها , ولم أجد شيئاً يليق بالحفلة وكانت هناك ملابس جديدة لخالتي ولكن موديلها قديم , شجعتني أختي أن البس احد الأثواب وزينته في نظري ووصفته بأنه ناسبني كثيراً , لبسته وسرحت شعري مفتوح وأنا في الطريق سمعت كلمات الإعجاب من احد الشباب بتسريحة شعري إلا انه علق على موديل الثوب ذهبت الحفلة شعرت بأنني في عصر آخر حتى أن صديقتي هذه علقت علي بأنني البس ثياب موديلاتها قديمة , قلت لها مبررة وكلي ثقة هذه هي الموضة ألان ,
كما إن إحدى صديقاتي في الحارة الخبيثات علقت ذات مرة بأنها تقدر تميز أختي من بين ألف فتاة وذلك من خلال ثوبها , فقد كان لدا أختي ثوب واحد تلبسه تكراراً .
كنا يا صديقتي أولاد طيبين كبرنا قبل الأوان , فقد عودتنا الحياة الصبر والتجلد معاً , فلم نشتكي لأحد همنا وما نعانيه حتى أهلنا ,لقد أحكمت خالتي سيطرتها علينا حتى أنها منعتنا من الذهاب إلى أهلنا فيما عدا الأعياد فقط , كان الخوف منها هو سيد الموقف لذا كنا دائماً ما نتوخى الحذر حتى في كلامنا عنها مع الغير .
مرت السنين ونحن منسين في المدينة , فوالدنا في غربته ويكتفي بإرسال المصروف , وبين فترات متباعدة يذهب للقرية , وأمي تزوجت بآخر بعد أن طلقها أبي طلقة ثانية , صدقيني يا صديقتي بأنني حين علمت بزواجها لم احزن قلت في نفسي من حقها أن تتزوج ربما ترزق بأبناء آخرين يملأون عليها حياتها .
أما عن علاقة أبي بخالتي فقد كانت من خلال الرسائل وطول فترة غربته ما يقارب خمسة عشر عاماً ذهبت خلالها أربع مرات لزيارته , أما نحن فلم نراه منذ آخر مرة جاء فيها .
 
 
                            6- لحظة يأس
 
احد عشر سنة مرت منذ أن جئت من القرية طفلة ذو الخمسة أعوام وها أنا اليوم فتاة شابة يفترض أن تحتضنني الحياة وتفتح ذراعيها لملاقاتي إلا أن طول الغربة وألم المعاناة أدى إلى ضيق نافذة الأمل أمامنا فدب اليأس في نفوسنا وأصبحت انظر أن لا أمل في تغيير وضعنا طالما وأننا في عزلة وخوف والجميع لا يعلمون عنا شيئاً وينظرون بأننا على ما يرام ,حتى أن أملنا في تغيير وضعنا بالزواج أغلق تماماً لان خالتي كانت تغلق كل الأبواب في وجوه من يتقدم طالباً الزواج ,وكأنها لا تريد لنا أن نتحرر منها , قد تستغربين لهذا ولكن هذه هي الحقيقة , إن خالتي لا يمكن لها أن تستغني عنا لسبب بسيط هو كيف تستغني عن الدجاجة التي تبيض لها ذهباً , اجل يا صديقتي فقد كنا تلك الدجاجة فهي تعلم جيداً أن حياتها مع أبي لن تستمر طويلاً إذا تخلت عنا لأي سبب من الأسباب مصلحتها أن نبقى معها وتحت ظلها .
تفاقمت المشاكل وزاد احتياجنا لكثير من الأشياء فقد كنا في بداية مرحلة الشباب وما يسموها المراهقة , لا اخفي عليك أنني لم اعش هذه المرحلة ولم اعرفها كبرنا يا صديقتي وحملنا همومنا على كاهلنا لا احد يدري بما نعانيه , أخي كان يقضي اغلب وقته خارج المنزل , وأنا وأختي كان نصيبنا هو الأكبر من المعاناة , تحصل أخي على منحة دراسية وغادر للخارج , التحقت أختي بكلية الطب وكنت أنا وقتها في المرحلة الإعدادية , كنا قليلاً ما نفرح حتى عندما تحصلت على علامات عالية وكنت من العشرة الأوائل في المدرسة لم اشعر بالفرحة وكأن الأمر سيان بالنسبة لي, فقد أوصلتنا ظروفنا إلى اليأس مع طول المعاناة .
مرت الأيام والسنين وحالنا لم يتغير سوى أننا أصبحنا أكثر تحسساً وألما لما كنا نعانيه
بعد الثانوية تحصلت على معدل جيد أهلني فيه الالتحاق بكلية الهندسة , إلا أنني واجهت مشاكل عدة في توفير بعض الكتب ومعدات الدراسة ,مما اضطرني أيضاً للقيام بتدريس بعض من أولاد الجيران وعمل بعض الأشغال اليدوية وبيعها وهذا ساعدني كثيراً في مصاريف الدراسة إلا انه لا اخفي عليك الأمر قد اثر على مستواي الدراسي قليلاً .
لقد بلغ السيل الزبى يا صديقتي وطفح الكيل ففي احد الأيام وعلى اثر خلاف بين أختي وخالتي تطور إلى حد ضربها وبصورة مهينة , حز الأمر في نفسي وفكرت حينها بأفكار جهنمية كادت أن توصلني إلى الهلاك طردتها وهرعت إلى رسائل أبي اقرأها علني أجد فيها الدواء إلا انه ولأول مرة شعرت بالامتعاض والحنق ودون أن ادري مسكت القلم وكتبت رسالة أخرجت فيها كل هم السنين ولم أكن متيقنة من وصولها خصوصاً أن هناك أكثر من عنوان أمامي, كانت ضربة حظ في لحظة يأس , ولكن هذه الرسالة كان لها اثر كبير في حياتنا , مما جعلني اشعر أن لحظة اليأس هذه التي مريت بها لم تكن إلا من تدبير القدر .


7-عودة ولكن
استلم أبي الرسالة وجاءني رده عبر إحدى زميلاتي في الكلية , بأن لا احزن واصبر وهو سوف يتدبر الأمر , وفعلا طلبنا جميعاً أن نأتي إلى القرية في العطلة الصيفية , إلا أن خالتي اعتذرت وسافرت أنا وأختي .
لو تدري يا صديقتي ما هو الشعور الذي انتابني عندما حان موعد سفرنا , شعرت بالفرحة والرهبة معاً ,رسمت في خيالي صور مثيرة للقاء , بدأنا رحلتنا منذ الصباح الباكر وحتى العشاء , حينما وصلنا إلى تلك المدينة الصغيرة التي انطلقت منها أثناء سفري وأنا صغيرة لم اعرفها كثرت فيها المباني والأسواق , وزحفت أكثر فأكثر نحو القرية .
وصلتنا السيارة إلى آخر محطة , وكان علينا أن نكمل بقية الطريق بواسطة الحمار , بالرغم من أن هناك طرقاً قد تعبدت وقصرت من مسافة الوصول إلى القرية إلا أن الطريق لقريتنا لا زال وعراً .
ونحن على مشارف القرية مرت نسمة هواء دغدغت وجنتاي وكأنها تلقي عليا التحية وتتمنى لي طيب الإقامة ,أغمضت عيناي وتنفست نفساً عميقاً أنهيت معه هم السنين وذكريات الماضي الأليم , وصلنا القرية كان أبي وإخواني لأبي في انتظارنا , سلمت على أبي وقبلت يداه , إلا أنني لم ارتمي بحضنه ولم أجهش بالبكاء كتلك الصورة التي تخيلتها مسبقاً فقد كان اللقاء عادياً ,صحت في داخلي آه منك أيها الفراق أفسدت كل شئ .
نظرت إلى أبي لا زال شاباً وسيماً بشوشاً يتمتع بروح الدعابة والفكاهة لم تثقل كاهله السنين على العكس من هذا زادته جمالاً , ملابسه جديدة ونظيفة عطره لازال يملا المكان ,نظرت إلى حالنا _أنا وأختي _كلانا تجتمع فينا الجدية ويملانا الحزن والألم إلا أن أختي أصبحت في تلك الفترة أكثر تشدداً في الدين تميل إلى قرأة ما يسمى بالكتب الصفراء التي لا تعبر عن جوهر الدين الحقيقي , أما أنا فقد كان الخجل والغموض هما ما يميزاني .
كان الجميع فرح بنا, بقينا ليلتنا في بيت أبي , على أن ننزل الصباح إلى بيت جدي لنرى أمي .

                                  8- بيت جدي
 
كم من منزل يألفه الفتى وحنينه لأول منزل
في صباح اليوم التالي ذهبنا إلى بيت جدي , كان لقائي بوالدتي اشد انفعالاً إلا انه لم يصل بعد إلى ذروة الصورة التي رسمتها في خيالي .
منذ الوهلة الأولى التي وطأت قدمي فيها بيت جدي لفت نظري هدوءاً لم يكن معهوداً من سابق وخصوصاً في الدور الأرضي ما يسمى ( بالسفل ) وهو دور خاص بالماشية فلم يعد هناك ضجيج لأصوات المواشي أصبح السفل خالياً إلا من بقرة وثوران أما بقية المواشي_ حمار وبغل وأغنام وخرفان _ التي كان يعج بها ليس لها أي وجود .
دخلت البيت أطوف في كل غرفه ألثمان أتلمس فيها الأثاث والأواني الفخارية ,إلا أنني تأسفت على حاله كثيراً أحسست بأنه بوفاة جدي وجدتي قد فُقد روحه , لم يعد كما كان يضج بالحركة والعمل سكنت العنكبوت بعض غرفه , أصبح خاوياً على عروشه إلا من أمي وأختها الأرملة وطفليها ,طفت بين جنباته باحثة عن لعبتي التي تركتها منذ زمن على النافذة إلا أني لم أجدها سألت عنها أمي أجابتني بأنها قد احتفظت بها مع ملابسي .
9- القرية
ذهبت مع أمي إلى ارض جدي فوجئت أن كثير من الأشجار المعمرة قد أتلفت , و الوادي الجميل الذي كان يلبس الخضرة والنظارة لم يعد بذاك الاخضرار , فقد ُجرفت الكثير من الأراضي بسبب السيول , سألت أمي أين هي أشجار البن التي كانت تغطي ارض جدي , أجابتني أن الأرض تحتاج إلى رجال لاعمارها وإنها تعمل بقدر استطاعتها , إلا أن المتنفدين في القرية قد استحوذا على منابع المياه ووجهوها إلى أراضيهم .
حزنت حزناً شديداً , وحدثت نفسي هل اخطأ جدي حينما أرسل أولاده إلى الخارج للدراسة , وأصبحوا أطباء ومهندسين تلذذوا بعيشة المدن , وأصبحت القرية فقط متنفس لقضاء أوقات الأعياد والعطل .
كان الوقت حصاد إلا أنني لم أرى البشاشة المعهودة في وجوه المزارعين , وهمة العمل التي تميزوا بها وروح التعاون التي كانت تجمعهم , وتردديهم للأهازيج الجميلة,دخلت الخلافات فيما بينهم على الأراضي وأصبح البعض يٌدعون ملكيه أراضي الغير بالباطل .
نظرت حولي لقد تغيرت القرية كثيراً , لم أرى أعمدة الدخان تتصاعد من أسطح المنازل إلا فيما نذر أصبحت الديشات هي التي تعتليها , اختلفت طرق معيشة أهلها وعاداتهم فقد استلذوا أكل اللحوم المجمدة والمعلبات والأرغفة بديلاً عن الحبوب والخبز , أقول وبكل أسف لقد غزتها المدنية الخبيثة يا صديقتي .
جلست وأمي نتحدث على احد التلال لمحت مبنى يختلف طرازه عن مباني القرية على بعد ما يقارب 3 ألف كيلومتر سألتها عنه وان أشير إليه , ما هذا المبنى ؟ أجابتني أنها مدرسة لقد تبرع جدك بأرضها , تنهدت وقلت و أسفاه , استغربت أمي قائلة لما الأسف يا بنتي هذه صدقة جارية سينتفع بها في آخرته , لم تكن تدري بأن أسفي لبنائها بعد فوات الأوان.
 
                                                     9 -لا الزمان الزمان
مؤكد بأنك تريدين معرفة ماذا حدثت مع أبي بشأن الموضوع الأهم , لقد جلسنا مع أبي أشعرناه بكل ما تعرضنا له من المعاناة , فكان رده دفاعياً عن نفسه بأن ظروفه وقتها كانت قاسية ومع هذا فأنه لم يقصر كان يرسل مصروفاً شهرياً , واخرج لنا مجموعة كبيرة من الإيصالات تفيد بمبالغ التحويل الذي كان يرسلها , حينها سكتت لم أشاء أن أرد عليه هل نحن أحوج ما نكون إلى المادة فقط , كما انه ارجع اللوم على أمي لأنها رفضت أن يأخذها إلى المدينة وأنصتت إلى كلام أبويها وفضلت أن تبقى في خدمتهم ,قلت في نفسي أما كنا نحن أحوج يا أماه بالخدمة , لم أعاتب و انبس ببنت شفة ,فقد تأخر الوقت كثيراً يا صديقتي على العتاب .
قد تقولين بأن هذا هو قدرك , لا ياصديقتي إن يد الله عادلة لا تظلم احد , لقد أحسن الله إلينا حين فتح قلوبنا وعقولنا للعلم , إن الظلم لا يأتي إلا من البشر .
كنا قد أشعرنا أبي برغبتنا بالعودة لإكمال دراستنا ولكن ليس إلى عند خالتي و إنما هذه المرة إلى عند عمي , حاول أن يثنينا عن رأينا هذا ولكنا اصرينا , فقبل تحت إلحاحنا .
خلال وجودنا في بيت أبي عوملنا بمنتهى اللطف وكأننا ضيوف لا يسمح لنا بإجراء أي أعمال في البيت أو خارجه إلا أنني شعرت بأنني غريبة لا املك الحق في شئ .
سوف احكي لكِ موقف حز في نفسي كثيراً وأشعرني أكثر بأننا لسنا لنا أي حقوق أي كان نوعها ,في احد الأيام رأيت أختي التي تصغرني بأربعة أعوام تبكي وترفض أن تعمل بالبيت أي عمل , أخبرتني بعدها والدتها بأنها غضبت من أبي لأنه لم يحضر لها عقد ذهب حسب وعده لها , وقال بأنه سوف يشتري لها من المدينة ولم يفعل بعد , وهي تحدثني وعقلي يا صديقتي يسرح بعيداً فقد وعدنا أبي أن لا نحضر معنا أي ملابس لأنه سوف يجلب لنا عند قدومه , ولكنا لم نستلم منه أي شئ , ومع هذا لم أجرؤ حتى على سؤاله لا أن اغضب فقد تعودنا الترفع عن صغائر الأمور هكذا عودتنا الحياة التي عشناها .
من الأشياء ايضاً التي حزت في نفسي وآلمتني, في احد الليالي كنت نائمة وبجانبي أختي لأبي التي تصغرني بأربعة أعوام , صحوت على صوت أبي يوقظها لتشرب اللبن (لبن بقري طازج ) , انتظرت طويلاً أن يعيد الكرة معي , إلى أن عاودني النوم مجدداً .
كان لا ُيسمح لنا أن نبيت عند أمنا بحجة وجود رجل غريب (زوج أمي ) , وكان يسمح لنا بالبقاء معها خلال العصرية من كل يوم ,لذا شعرنا بأننا لم نكتفي من أمي ولم نعوض ما فاتنا , ولا اخفي عليك يا صديقتي أن أبي حدثني ولأكثر من مرة برغبته في إرجاع والدتي إليه على أن تتطلق من زوجها الحالي أوضح لي بأن هذا القرار هو لأجلنا , لكني رفضت أن أتوسط في أمر كهذا وأجبته بأن الوقت قد فات , فقد كبرنا و وجودنا في القرية مؤقت ,
انتهت العطلة وحان موعد رجوعنا إلى المدينة , نزلنا قبل سفرنا بيوم لنودع أمي ,فوجئنا في صباح اليوم التالي بوجودها بجانب بيت أبي تنتظر خروجنا لتوديعنا , نظرت إليها والدموع تفر من عينيها وتتساقط دون توقف, و أبي ينظر إليها بنشوة الانتصار, لا اخفي عليك يا صديقتي لقد أحزنني منظرها كثيراً .
ركبت على الحمار ولكن هذه المرة لم يقوم أبي بربطي فقد صارت لدي حصانة ضد الطرق الوعرة ,نظرت إلى القرية نظرة وداع أخيرة لقد تغيرت كثيراً , نُزعت البساطة من أهلها وحل محلها الحقد والحسد , نظرت إلى الحمار أحدثه كل شئ قد تغير في القرية إلا أنت لا زلت تحمل أسفاراً
ونحن على مشارف الخروج من القرية كنت اردد
لا الزمان الزمان فيما عهدناه قديما
ولا الديار الديار
حزمنا أمرنا للرجوع ولكن هذه المرة إلى بيت عمي , لنبدأ رحلة جديدة من حياتنا . 
 
 
                                                 10- بيت عمي
برغم كل شئ فقد كانت رحلتنا إلى القرية رائعة , إلا أنني لم اشعر بأنني قد وجدت ما ابحث عنه طيلة هذه السنين , فلا زال الحنين يشدني إلى ذلك الشئ الذي يقبع في أعماق نفسي ,وكثيراً ما راودني الخوف يا صديقتي أن أظل عمري كله ابحث عنه ولا أجده .
في بيت عمي قوبلنا بترحاب لم نشهد له مثيل , فقد كان عمي رجل طيب القلب ,متسامح و خلوق , لأول مرة شعرنا بلذة الحياة وروعتها , إلا أن سنين الغربة قد أحاطتنا بنسيج من الصعب تمزيقه وأصبح التغرب مستقر في باطننا , فقد اعتدنا التعامل بحذر شديد مع من حولنا, وكذا مع الأشياء التي تحيط بنا .
لكن الحياة أجمل في بيت عمي , فقد كانت الحياة سهلة وبسيطة فدماثة خلق عمي وطيبته وروحة السمحة ساعدتنا كثيراً في إعادة ثقتنا بأنفسنا وبالآخرين , ولأول مرة يا صديقتي اشعر بأن الحياة قد فتحت لنا ذراعيها الواسعتين واحتضنتنا برفق وحنان , فبدا المستقبل لنا جميلاً , وبدأنا نجني ثمار صبرنا ومعاناتنا وأولى هذه الثمار هي انتهاء أختي من دراستها الجامعية وتحول نظرتها المتشددة في الدين إلى الوسطية , وبعد فترة وجيزة تقدم لها قريب لنا طبيب محترم تزوجت وسافرت معه إلى بلدته , بفراقها أحسست بأنني قد فقدت جزء من جسدي فقد كانت أختي تمثل لي العالم بأكمله ظليت أتجرع الم فراقها في داخلي دون أن يشعر بي احد .
ومع هذا كان الم الفراق أهون عليا مما عانيته سابقاً , لذا تغلبت على الألم بالصبر وأقنعت نفسي بأن هذه هي سنه الحياة وتدريجياً تقبلت فراق أختي وخصوصاً عندما علمت بأنها سعيدة في حياتها .
مؤكد بأنك تتسالين عن أخي وعلاقتي به , وهل وجوده لم يعوض فقداني لأختي , علاقتي بأخي لم تكن بتلك القوة فقد كان يقضي اغلب وقته خارج البيت , وبعد تحصله على المنحة الدراسية استلذ بالغربة التي كانت في البدء مفروضة علية لتصبح غايته لتحقيق طموحه وهو الآن جراح كبير في إحدى الدول الاوروبيه لا يزورنا إلا كل وحين .
 
                               11- أخيراً وجدته
تذكرين ذلك اليوم جيداً في الكلية عندما كنا نتناقش حيث طرحت إحدى الصديقات سؤال وطلبت من كل واحدة منا أن تجيب علية كان سؤالها ماذا سيكون جوابك ؟ إذا أخبرك احد زملاء الدراسة بأنه يحبك ؟ , وطبعاً كان جوابي وفقاً لجديتي المعهودة بأن من غير السليم إقامة علاقة ما لا تدري ماذا سيكون نهايتها قد تنتهي بالزواج أو الفراق , وإذا حدث لي هذا سوف اطلب أن تكون العلاقة رسمية وعززت كلامي بمثل شعبي عندنا (من يحبك يعرف طريق خدك ) , وقتها ضحكتن على كلامي مما أشعرني بأنني شخصية معقدة , ويا لمصادفة القدر بعد انتهاء المحاضرة فوجئت بالمعيد (احمد عبدالله ) يطلبني إلى مكتبه وبأنه يريدني في موضوع ما , بدت على وجهي أثار القلق وتسألتي أنتِ ايضاً يا ترى ماذا يريد منك ؟ هززت رأسي بأني لا اعلم .
وحينما ذهبت إليه , سألني أسئلة عرفت معها بأنه معجب بي , ويريد أن يعرف إن كنت مرتبطة أم لا .
أجبته على الفور بأنني لست مرتبطة , ولا يمكن أن ارتبط بأي شخص دون وجود علاقة رسمية , وبعدها طلبت منه إذا كان يريد أن يتعرف لابد أن يكون بشكل رسمي أي خطوبة .
عندما رجعت و أخبرتك عما كان يريد مني , استغربتي أن يكون ردي بهذه السهولة , وسألتيني لماذا طلبتي رسمية العلاقة مع شخص لا تعرفيه ولا تربطك به أي علاقة ,وسألتيني لما التسرع إن هذا زواج يحبذ فيه التأني لم أشاء أن أجيبك بأنني انشد الاستقرار و لا تعنيني الرومانسية كثيراً كباقي الفتيات , صحيح انه لم يلفت نظري ولم أكن معجبة به ولكني نظرت إلى أشياء أخرى فيه جعلتني أوافق على الارتباط به وكونه هو من أعجب بي وأحبني كان هذا كافياً بالنسبة لي .
لقد كنت يا صديقتي أحوج ما يكون للاستقرار , لبيت اشعر فيه بحريتي وانه ملكي , لا بيت استضاف فيه كيف بالله تريدين أن ارفض عرضاً كهذا .
وخلال الخطوبة اكتشفت بأن خطيبي يحبني بجنون , ولكن غيرته اشد جنوناً ,إنها غيرة مرضية , إلا أنني تحملت هذا الجنون فقد تعودت الصبر على أمل أن يتغير بعد الزواج , ولكنه لم يتغير فالطبع قد غلب التطبع , الغيرة أفسدت كثير من الأمور بيننا , أفسدت تلقائيتي في تعاملي معه , فلم أجد في حضنه الأمان والاستقرار الذي كنت انشدهما , ضاع مني مجدداً ذلك الشئ الذي كنت ابحث عنه طيلة كل هذه السنين و ظنيت أنني وجدته بالزواج.
بعد الزواج بشهرين ظهرت عليا عوارض الحمل حينها شعرت بشعور لم أحسه من قبل , شعرت بأن هذا الجنين هو من يحتويني ولست أنا من يحتويه إحساس جميل أعاد لحياتي رونقها وادخل الفرحة في قلبي ونور الأمل .
عندما أحسست بالآم المخاض ,أخذني زوجي إلى المشفى تعسرت قليل في الولادة , والحمد لله فرج الله عليا بعد ساعات من الألم, سمعت صوته يصرخ عاليا و كأنه يقول أنا هنا يا أماه , لم تسعني الفرحة وقتها نسيت الألم الذي عانيته , وحينما جئ به إلي وهو يصرخ من الجوع ضممته وهمست في أذنيه لن أتخلى عنك يا صغيري سآخذ بيدك إلى طريق السلامة ,لن أتركك تواجه معترك الحياة لوحدك سابقي جنبك ما حييت , ثم ضممته إلى صدري بقوة ورفق معاً ,أدركت حينها بأنني قد وجدت ما ابحث عنه طيلة هذه السنين .
تمت بحمد الله




تقرير بمشاركة سيئة عنوان الآيبي  




تقرير بمشاركة سيئة عنوان الآيبي